عندما يتقدم العمر

أتقدم في العمر فأتقدم في التعب, يغطي الشيب ما تبقى على رأسك من شعر, فتشعر بالخجل من مجرد التفكير بصبغه ليعود حالك السواد, تهجر التدخين ثم تعود اليه كارهاً له وملتصقاً به, تتعب عيناك من الابصار لكثرة ما أبصرت لكنك تواصل القراءة كنوع من الواجب اليومي, اذ لحظة تشعر انك لا تحتاج الى المزيد من القراءة تدخل قافلة الامية, تجلس امام شاشة التلفزيون, تتابع ما يحدث هنا من حروب وضحايا فتصير حيادياً لأنك امام هذه الوحشية البشرية تتمنى لو أنك ارتحلت الى غابة, تواصل شرب القهوة التركي والنسكافيه والشاي الاحمر والاخضر ولا تجد نفسك مضطراً الى عد اعقاب سجائرك أو فناجين قهوتك وشايك, وبين وقت وآخر, تبسط امامك أوراقك وتتناول قلماً من بين اقلامك الكثيرة الموضوعة في فنجان كبير, وتكتب جملاً كثيرة في موضوعات كثيرة.

أمام حاسوبك تجلس ساعات وساعات بينما فأرة أصغر من حجم يد ترسل بك من مدينة الى مدينة ومن بلد الى بلد ومن قارة الى اخرى, فتشعر بحالة من الامتلاء سرعان ما تتحول الى حالة من الفراغ لحظة تغلق حاسوبك, تتابع على الجزيرة الرياضية مباريات كرة القدم والتنس الارضي وكرة السلة وحتى المصارعة ولا تستطيع الوقوف على الحياد, اذ سرعان ما تنحاز الى لاعب أو الى فريق ويصبح بالنسبة لك لاعبك المفضل الوحيد أو فريقك المفضل الوحيد, ودون ان تشغل يديك المشغولتين بالفنجان واللفافة بالتصفيق.

هذا الالغاء للحدود وللمسافات حول العالم الى قرية صغيرة ولكنها قرية كريهة، يتبادل الناس فيها الحقد والمقت والعداوة والقتل وحتى الابتسامات الكاذبة، يتحدث الجميع عن حقوق الانسان ويتحدثون فقط، وعن حقوق الشعوب ويواصلون تدمير الاخرين واوطانهم، ويتحدثون عن الرفق بالقطط والكلاب والحيتان والسلاحف والافاعي ويقرنون حديثهم بالتزام حاد بهذا الرفق الكاذب، لم يعد الناس يحتاجون الى طائرات ومطارات او الى موانئ وسفن او الى طرقات وعربات، كي يذهبوا من مكان الى آخر، فالدنيا كلها امام عينيك وامام اذنيك وانت تجلس في استرخاء على مقعد مقابل لشاشة التلفاز، لا تحتاج سوى لريموت كنترول كي تسافر وكي تتجول وكي ترى وكي تسمع، وفي ساعة متأخرة من الليل تحتسي اخر فنجان قهوة وتدخن لفافتك الاخيرة وتضع جهاز مكافحة البعوض وطرده وكأن نهارك كله كان هدوءاً وسلاماً وفرحاً وطمأنينة.

تحاول ان تعود بالذاكرة الى اربعين او خمسين عاما كنت خلالها لا تجد صحيفة لتقرأها او مجلة او شاشة تلفزيون، فتجد ان العالم تلك الايام كان عالم الانسان الحقيقي النقي، فلا تجد من عزاء عما انت فيه سوى ان تقول لنفسك لقد عشت الماضي وخسرت الحاضر ولست معنيا بالمستقبل لانه سيكون لجيل يأكل بعضه بعضا ويبدو جارك او قريبك او ابنك بعيدا عنك بمسافة آلاف السنوات الشمسية.

شكرا لله ان متعنا بزمن جميل، كان الرفق والخلق والمحبة والعون والتسامح والسلام تظلل كل بيوتنا، قبل ان تتركنا وحيدين على الارصفة لا نتبادل حتى التحية الجافة.

kmahadin@hotmail.com