توفي الدكتور نصر حامد أبو زيد بعد صراع مع فيروس غريب في مستشفى الشيخ زايد في مدينة السادس من أكتوبر جنوب القاهرة حيث كان يقيم. وكما جاء رحيله فجائعيا كانت حياته فجائعية، لا سيما الخمس عشرة سنة الأخيرة منها، حيث قضاها في منفاه الهولندي بعد أن قضت محكمة مصرية بارتداده ومن ثم تفريقه عن زوجته الباحثة ابتهال يونس. على خلفية دعوته المتجددة لقراءة النص الديني قراءة تاريخية، بعيدا عن مفهوم القداسة والحاكمية اللتين ساهمتا في القضاء على مفهوم الاجتهاد، ورغم اعلان أبي زيد في العديد من مؤلفاته أنه لا ينكر ألوهية القرآن وأنه يتوقف أمام الوسيط البشري الذي نقله والذي لا يستقيم فهمه ـ بطبيعة الحال ـ بعيدا عن الظروف التاريخية التي نزل فيها، إلا أن منتصف تسعينيات القرن الماضي شهد حالة من العدوان السافر على كل الأفكار النهضوية التي دعت الى ضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد شهدت هذه الفترة أعلى تجليات العنف الديني في مصر مما دفع الدولة الى التخلي عن أبي زيد، فترك جامعة القاهرة التي كان يدرس بها بعد توصية مجلس الجامعة بعدم ترقيته الى درجة الأستاذية بسبب أعماله المتهمة بالمروق، ثم تصاعد الأمر حتى وصل الى أن أقام واحد من المحامين دعوى حسبة ضد الرجل للقضاء بردته وذلك تأسيسا على التقرير الذي وضعه الدكتور عبد الصبور شاهين أستاذ علم التفسير في حينها عن مؤلفات أبي زيد وكان التقرير يحمل اتهاما صريحا له بالكفر والخروج على الملة. ونظرا لأن الحكم الصادر في الدعوى كان يمثل سابقة تنذر بالخطر وإمكانية التكرار اضطرت الدولة الى إصدار تعديل تشريعي في قانون المرافعات يربط إقامة مثل هذه الدعوى بالنيابة العامة باعتبارها ممثلة لمصلحة المجتمع دون أن تترك هذا الحق على عواهنه للأفراد. وقد استفاد عدد كبير من الكتاب من هذا النص، في بلاغات مختلفة تم تقديمها للنائب العام طعنا وتفتيشا في ضمير هؤلاء، وكان آخر هذه التجليات بلاغ تسعة من المحامين ضد الطبعة التي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة من الكتاب المرجع 'ألف ليلة وليلة '.
وقد ولد نصر أبو زيد في إحدى قرى طنطا في 1943، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة. في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة التوجيهية ليستطيع استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن لتستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960م.
حصل نصر على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة القاهرة 1972م بتقدير ممتاز، ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976م وأيضا بتقدير ممتاز، ثم دكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979م بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
عمل نصر حامد أبو زيد في عدد من الوظائف منها: فني لاسلكي في الهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية 1961 -1972 م. معيد في قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1972م. مدرس مساعد في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1976. منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1976-1977 مدرس في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1982.أستاذ مساعد في كلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة في الخرطوم خلال الفترة من ( 1983-1987) أستاذ مساعد في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1987. منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية 1978-1980م. أستاذ في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1995. وقد حصل أبو زيد على العديد من الجوائز والأعمال منها :جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة 1982م. أستاذ زائر في جامعة أوساكا للغات الأجنبية في اليابان 1985 ـ 1989. وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس 1993 م. أستاذ زائر في جامعة ليدن في هولندا بدءا من أكتوبر 1995 م. جائزة اتحاد الكتاب الأردنيين لحقوق الإنسان، 1996. كرسي كليفرينخا Cleveringa للدراسات الإنسانية - كرسي في القانون والمسؤولية وحرية الرأي والعقيدة ـ في جامعة ليدن بدءا من ايلول / سبتمبر 2000م. ميدالية 'حرية العبادة'، مؤسسة إليانور وتيودور روزفلت2002. كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام والهيومانيزم، جامعة الدراسات الهيومانية في أوترخت، هولندا 2002.
أما مؤلفات نصر أبي زيد فقد تجاوزت العشرين كتابا منها: الاتجاه العقلي في التفسير ( دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير، فلسفة التأويل ( دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي). وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ،اشكاليات القراءة وآليات التأويل ( مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة ، نقد الخطاب الديني ،المرأة في خطاب الأزمة ( طبع بعد ذلك كجزء من دوائر الخوف)، البوشيد و( ترجمة وتقديم نصر أبي زيد) ،الخلافة وسلطة الأمة نقلة عن التركية عزيز سني بك ( تقديم ودراسة نصر ابي زيد) ، (1) النص السلطة الحقيقة ( مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقة)، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ( يتضمن الكتاب السابق المرأة في خطاب الأزمة)، الخطاب والتأويل ( مجموعة دراسات، تتضمن تقدمة كتاب الخلافة وسلطة الأمة)، التفكير في زمن التكفير ( جمع وتحرير وتقديم نصر ابي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوها)، القول المفيد في قضية أبي زيد ( تنسيق وتحرير نصر أبي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته. هكذا تكلم ابن عربي ( يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي)، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.
أبو زيد في الصحافة المصرية
اهتمت الصحافة المصرية برحيل الدكتور نصر أبي زيد ونعته كافة الصحف المستقلة ومعظم الصحف الحكومية، فقد نشرت صحيفة 'الأهرام' تقريراً مختصرا بثته وكالة أنباء الشرق الأوسط عن الراحل، وكذلك قدمت عددا من التقارير في صفحاتها الثقافية، أما جريدة الأخبار فقدمت فيها الكاتبة والصحافية عبلة الرويني مقالة قصيرة عن الراحل في صفحتها الأسبوعية التي تصدر يوم الخميس. كذلك فعلت جريدة 'المصري اليوم' في ملحقها الثقافي الأسبوعي الذي يصدر صبيحة كل خميس أيضا. كذلك تابع موقع 'اليوم السابع' رحلة المرض والرحيل في الوقت نفسه نشر بعض رفاق وأصدقاء نصر مقالات خاصة ومستقلة عن مشواره الفكري نقدم هنا جانبا منها.
حسن نافعة ينعي مفكرا كبيرا
وقد كرس الدكتور حسن نافعة عموده في جريدة 'المصري اليوم' لينعي أبا زيد قائلا : 'كانت صدمة كبيرة حين طالعت في الصحف الصادرة صباح أمس خبر وفاة الدكتور نصر حامد أبي زيد، وحزنت كثيراً لأنني لم أتمكن من رؤية ووداع أستاذ زميل ومفكر مرموق قبل رحيله أو حتى المشاركة في تشييع جثمانه. ويبدو أننا نعيش لحظة وداع العلماء والمفكرين الكبار في كل العالم العربي. فمنذ أسابيع نعيت في هذا المكان المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، وبالأمس نعيت رجل الدين العلامة والمفكر اللبناني الشيخ محمد حسين فضل الله، واليوم يجيء الدور على أستاذ جامعي ومفكر مصري مرموق.
تعرفت على الدكتور ( نصر) في بداية الثمانينيات حين كان يتردد على نادي أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة، ويحرص، مع زملاء آخرين من المهتمين بقضايا الثقافة والفكر، على حضور لقاء أسبوعي يشرف عليه أستاذنا المغفور له الدكتور عبدالعزيز الأهواني، عرف باسم ( لقاء الأربعاء).
ثم تعمقت علاقتنا خلال فترة عضويتي لمجلس إدارة النادي وإشرافي على نشاط لجنته الثقافية ( 84 - 87) والذي كان يتابعه بانتظام، وظلت علاقتي به وثيقة إلى أن تفجرت أزمة ترقيته إلى درجة الأستاذية، وأدليت بوجهة نظري فيها في حينه منتقدا طريقة إدارة الجامعة لها.
ثم بدأت طرقنا تفترق تدريجياً بعد ذلك، خاصة بعد اضطراره وزوجته، الدكتورة ابتهال يونس، للإقامة في هولندا عقب صدور حكم من المحكمة بتفريقهما في قضية حسبة، وهو فصل مأساوي ليس فقط فى حياة الدكتور نصر الشخصية ولكن أيضا في حياة وطن.
كانت حياة الدكتور نصر حامد أبي زيد رحلة كفاح شخصي ومسيرة نضال فكري خرج منهما معا مرفوع القيمة والقامة. فعلى المستوى الشخصى، تعد رحلة حياته نموذجاً فذاً لرجل عصامي لم تستطع تحديات النشأة في أسرة فقيرة أن تانا كاتب المقال معاقر من عزيمته الفولاذية لطلب العلم والحصول على أعلى درجاته وإثبات تفوقه وجدارته، رغم اضطراره في مقتبل حياته للعمل موظفا بسيطا للإنفاق على نفسه وأسرته.
والأهم أن هذه النشأة المتواضعة لم تصبه بأي عقدة، حيث ظل طوال حياته إنساناً دافئاً لطيف المعشر ومعتزاً بنفسه دون غرور وشديد الحرص على كرامته. أما على المستوى العلمي فكان الدكتور نصر نموذجاً للمفكر الحقيقي المتعطش للمعرفة والباحث عن الحقيقة، مهما كلفته من مشقة، الرافض للسير على الدروب السهلة والممهدة.
لذا كان من الطبيعي أن يصبح مثيراً للجدل، شأنه في ذلك شأن المفكرين الكبار. وكما كانت مسيرة حياته الشخصية مرآة عاانا كاتب المقال معاقة لمجتمع طبقي لا يعرف كيف يكتشف المواهب ويرعاها، كانت مسيرة حياته الفكرية مرآة عاانا كاتب المقال معاقة لمجتمع يعيش واقع أزمة ثقافية وفكرية عميقة في زمن الاستبداد وشركات توظيف الدين والأموال!.
فحين ترفض لجنة 'علمية' في أهم الجامعات المصرية ترقية باحث مجتهد كالدكتور نصر، بدعوى أنه 'كافر'، لا يصبح لذلك سوى معنى واحد وهو أن الجامعة لم تعد مكاناً للعلم وإنما لتصفية حسابات شخصية أو أيديولوجية. الغريب أن الأستاذ عضو لجنة الترقيات الذي كفره والذي كان يعمل، بالإضافة إلى عمله كأستاذ في الجامعة، خطيباً في مسجد ومستشاراً لإحدى شركات توظيف الأموال، تعرض هو نفسه للتكفير فيما بعد من جانب من هم أكثر منه تطرفاً!.
فهل أدركنا أننا لن نستطيع أن نتقدم، كشعوب، خطوة واحدة للأمام إلا إذا أعلينا قيمة التفكير وتخلينا تماما عن آفة التكفير؟ رحم الله المفكر الكبير الدكتور نصر رحمة واسعة، وكل العزاء لزوجته الفاضلة ولأصدقائه ومحبيه.'
الشوبكي يكتب عن أبي زيد ورفاقه
وفي زاويته الأسبوعية في جريدة 'المصري اليوم' كتب الدكتور عمر الشوبكي المحلل والكاتب السياسي في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عن الرحلة الصعبة للمفكر الراحل ورفاقه الذين تعرفوا إليه خارج مصر ومنهم نجل الرئيس السوري الراحل نور الدين الأتاسي الذي أصر على الحضور الى مصر للتعزية، وكذلك حفيد المناضل المستنير عبد الرحمن الكواكبي. أما فيما يتعلق بأفكار نصر أبي زيد فيقول الشوبكي أنه لم يكن متفقا مع بعض النتائج التي توصل إليها إلا أن ذلك لم يكن ليسمح لأحد بمصادرة حقه في الاجتهاد. ويقول:
'ورغم أني لا أدعي أني قرأت كل أعمال الراحل القديمة، إنما معظم ما كتبه منذ أن أجبر على الرحيل إلى جامعة هولندا عام 1995، واختلفت مع بعض ما وصل إليه من استنتاجات، ولكن لم أتخيل أن قضية الاتفاق والاختلاف أو حتى ما يسميه البعض ( الانحراف) الفكري والديني هو أمر يستدعي التكفير والتفريق بين الزوج والزوجة، وهي جريمة حقيقية لن تغفر لنا جميعا.
والحقيقة أن كارثة ما جرى لنصر حامد أبي زيد لا تكمن في رفض الجامعة لآرائه، إنما في أن من يتعامل معها من المفترض أنهم أساتذة جامعة تعاملوا معها على أنها آراء كافرة، وتحولوا من علماء إلى شيء أسوأ من كهنوت القرون الوسطى، وهو أمر لم يكن يتصور أشد الظلاميين إمكانية حدوثه في جامعة القاهرة.
وجاء الحكم الأصعب وهو التفريق بين الرجل وزوجته، فإذا افترضنا أن نصر حامد أبا زيد غير مؤمن، ( وهو اتهام غير صحيح ولا يحتاج فيه الرجل لشهادة من أحد لأنه صار بين أيادي الله)، واختارت زوجته بمحض إرادتها أن تعيش معه، فهل هناك أي سلطة في الكون من حقها أن تتنطع بهذا الشكل المهين على حياة الرجل وتفرض على شريكة حياته أن تتركه؟.
المذهل أن كل من انبروا بكل هذا الحماس لمحاربة الرجل واستدعاء ( كوكتيل) نادر من الإرث التكفيري والظلامي أزعجهم فقط اجتهاده العلمي، في حين لم يفرق معهم تخلف مصر الاقتصادي وفسادها وسوء أوضاعها السياسية وفقر شعبها وتراجع جامعاتها وأداء مؤسساتها، واعتبروا كل هذا ليس ضد الإسلام، إنما فقط بعض الأبحاث التي سلاحها القلم والورقة هي التي ستهدد هذا الدين العظيم الذي عاش لقرون وآمن به مئات الملايين من البشر، وبنى واحدة من أهم الحضارات الكبرى في تاريخ الإنسانية قبل أن يجثم من كفروا ابا زيد على عقول المسلمين.
إن تواطؤ الدولة مع ما حدث، ومسؤوليتها عن شيوع هذه الثقافة الظلامية داخل المجتمع، وسيادة نمط من التدين المغشوش ينبري فيه الناس للدفاع عن كل ما هو شكلي وترك كل ما هو جوهري، أدى في النهاية إلى استقالة العقل المصري أو إقالته، وسطوة ( كباتننا الرياضيين) وخبرائنا الممثلين، ونجومنا من الدعاة الجدد والقدامى على عقول الناس، وأصبحنا على ما نحن فيه لا نسرّ عدوّاً ولا حبيباً.
ستظل رحلة غربة أبي زيد دليل إدانة لنا جميعا، وتؤكد عمق مأساتنا وغيبوبتنا، وما لم نستعد دولة العقل والقانون، فإننا سنفقد ليس فقط ما تبقى مما بيّنـّاه في قرنين، إنما أيضا أي قدرة على صناعة أي مستقبل'.
أبو زيد وموقفه من الحاكمية
ما من شك في أن الموقف الفكري الجذري لنصر حامد أبي زيد كان يعتبر إعادة اعتبار لفكرة التنوير التي صاحبت مشروعا عربيا واعدا بالنهضة، وما انحيازه إلى الفكر الاعتزالي سوى محاولة للتنبيه الى أهمية الأخذ بالقراءة العقلية للنص القرآني، لذلك فقد كرس الرجل كتابا مفردا لهذه القضية حول المجاز القرآني لدى المعتزلة، وقد ظلت القضية نفسها محورا أساسيا في جل أعمال أبي زيد. ففي كتابه المؤسس 'نقد الخطاب الديني' يرى أبو زيد أن رد الظواهر كلها 'طبيعية واجتماعية' إلى علة أولى أو مبدأ أول، من شأنه أن يقود بالضرورة إلى 'الحاكمية' الإلهية بوصفها مقابلا ونقيضا لحاكمية البشر. ويرى الرجل أن الخطاب الديني لا يكتفي بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب، بل يوظفها أيضاً في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولاته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة متهالكة هي مناهضة الدين.
ليس هذا فحسب بل كثيرا ما تناول الكاتب عناصر أخرى أخذت قداسة النص نفسه مثل أقوال السلف، بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته، وبعبارة أخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية 'التوحيد بين الفكر والدين' في توظيف هذه الآلية، أما بالنسبة لـ 'آلية تفسير الظواهر بردها إلى مبدأ واحد فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر، ومن الواضح ـ حسب المؤلف - أن الخطاب الديني يعتمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض توظيف هذه الآلية ويردها على أصحابها وهذا في حقيقته يمثل موقفاً نفعياً إيديولوجيا من التراث، موقفاً يستبعد منه العقلي والمستنير ليكرس الرجعي المتخلف ولعل هذا ما يدفع البعض لاستخدام نفس الآلية مستنداً إلى العقل المستنير في التراث متوهماً بذلك أنه يمكن أن يحارب التخلف بنفس صلاحياته، ومتصوراً أنه يستطيع بنفس السلاح هزيمته والحقيقة أن هذا الموقف النفعي من التراث في الخطاب الديني يساعده في توظيف آلية إهدار البعد التاريخي. ويعود أبو زيد بمفهوم الحاكمية الى الدولة الأموية التي بدأت برفع المصاحف على أسنة السيوف وطلبت الاحتكام الى كتاب الله عندما استجاب معاوية لنصيحة عمرو بن العاص في معركة صفين، يقول أبوزيد: ولا خلاف على أنها كانت 'حيلة' أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات الخصوم وان توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين. إن حيلة التحكيم تكشف عن محتواها الأيديولوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص، وقد أدرك الإمام على ذلك وكان قوله لرجاله: 'عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص ( وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر الرجال، ويحكم إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة. ويضيف أبوزيد أن هذا الموقف ترتب عليه نشوء ظاهرة أهدرت قيمة عقائدية، وأسست لظاهرة الحاكمية ويؤكد أن افتقار الدولة الأموية الى المشروعية هو الذي دفعها الى ذلك، ويؤكد الرجل هنا أن هذه اللعبة تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي وهي عملية ظل النظام الأموي يمارسها بحكم افتقاره إلى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي وقد ظل الاتجاه إلى الأسلوب الأموي مسلكاً سائداً في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية. ويضيف أبوزيد: احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ 'الحاكمية' الذي غرسه فكانت مقولة 'الجبر' التي تسند كل ما يحدث في العالم ـ بما في ذلك أفعال الإنسان - إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة.
ولم يكن نصر أبوزيد ببعيد عن القراءة الواقعية لأسباب الأزمة الفكرية والمجتمعية التي أدت الى غلق باب الاجتهاد، ويقول هنا:
إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه، لأنه مقصد شكلي ما دام يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلا عن انه تزييف يجمد النصوص كما يجمد الواقع، فيتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن معاشرة جنسية، وإذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين آراء القدماء للاختيار منها، حسب ابي زيد، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكوما بأطر لا تمت إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ 'لا اجتهاد فيما فيه نص'، وفي قضية أن تحجب البنت سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي آن يكون المعيار هو المقاصد الكلية للوحي، بدلا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص. لذلك ليس غريباً أن تتسع الفجوة، حسب أبي زيد، بين الواقع المتحرك المتطور وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها. وينتهي أبو زيد الى القول بأن الخطاب الديني بكل مستوياته من معتدل ( حكومي ومعارض) ومتطرف وتعليمي تربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على السواء.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتا، فإنه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام، صدى كان يتردد خافتا طوال الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت / الاستشهاد. ويختتم أبو زيد رأيه قائلا:
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة. إن الواقع من منظور شباب عصي على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، انه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم، وهلم جرا.
وقد ولد نصر أبو زيد في إحدى قرى طنطا في 1943، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة. في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة التوجيهية ليستطيع استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن لتستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960م.
حصل نصر على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة القاهرة 1972م بتقدير ممتاز، ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976م وأيضا بتقدير ممتاز، ثم دكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979م بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
عمل نصر حامد أبو زيد في عدد من الوظائف منها: فني لاسلكي في الهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية 1961 -1972 م. معيد في قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1972م. مدرس مساعد في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1976. منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة 1976-1977 مدرس في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1982.أستاذ مساعد في كلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة في الخرطوم خلال الفترة من ( 1983-1987) أستاذ مساعد في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1987. منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية 1978-1980م. أستاذ في كلية الآداب، جامعة القاهرة 1995. وقد حصل أبو زيد على العديد من الجوائز والأعمال منها :جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة 1982م. أستاذ زائر في جامعة أوساكا للغات الأجنبية في اليابان 1985 ـ 1989. وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس 1993 م. أستاذ زائر في جامعة ليدن في هولندا بدءا من أكتوبر 1995 م. جائزة اتحاد الكتاب الأردنيين لحقوق الإنسان، 1996. كرسي كليفرينخا Cleveringa للدراسات الإنسانية - كرسي في القانون والمسؤولية وحرية الرأي والعقيدة ـ في جامعة ليدن بدءا من ايلول / سبتمبر 2000م. ميدالية 'حرية العبادة'، مؤسسة إليانور وتيودور روزفلت2002. كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام والهيومانيزم، جامعة الدراسات الهيومانية في أوترخت، هولندا 2002.
أما مؤلفات نصر أبي زيد فقد تجاوزت العشرين كتابا منها: الاتجاه العقلي في التفسير ( دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير، فلسفة التأويل ( دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي). وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ،اشكاليات القراءة وآليات التأويل ( مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة ، نقد الخطاب الديني ،المرأة في خطاب الأزمة ( طبع بعد ذلك كجزء من دوائر الخوف)، البوشيد و( ترجمة وتقديم نصر أبي زيد) ،الخلافة وسلطة الأمة نقلة عن التركية عزيز سني بك ( تقديم ودراسة نصر ابي زيد) ، (1) النص السلطة الحقيقة ( مجموعة دراسات ومقالات نشرت خلال السنوات السابقة)، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ( يتضمن الكتاب السابق المرأة في خطاب الأزمة)، الخطاب والتأويل ( مجموعة دراسات، تتضمن تقدمة كتاب الخلافة وسلطة الأمة)، التفكير في زمن التكفير ( جمع وتحرير وتقديم نصر ابي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته وردود الفعل نحوها)، القول المفيد في قضية أبي زيد ( تنسيق وتحرير نصر أبي زيد عن قضية التفريق بينه وبين زوجته. هكذا تكلم ابن عربي ( يعيد فيها الباحث مراجعة دراسته عن ابن عربي)، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية.
أبو زيد في الصحافة المصرية
اهتمت الصحافة المصرية برحيل الدكتور نصر أبي زيد ونعته كافة الصحف المستقلة ومعظم الصحف الحكومية، فقد نشرت صحيفة 'الأهرام' تقريراً مختصرا بثته وكالة أنباء الشرق الأوسط عن الراحل، وكذلك قدمت عددا من التقارير في صفحاتها الثقافية، أما جريدة الأخبار فقدمت فيها الكاتبة والصحافية عبلة الرويني مقالة قصيرة عن الراحل في صفحتها الأسبوعية التي تصدر يوم الخميس. كذلك فعلت جريدة 'المصري اليوم' في ملحقها الثقافي الأسبوعي الذي يصدر صبيحة كل خميس أيضا. كذلك تابع موقع 'اليوم السابع' رحلة المرض والرحيل في الوقت نفسه نشر بعض رفاق وأصدقاء نصر مقالات خاصة ومستقلة عن مشواره الفكري نقدم هنا جانبا منها.
حسن نافعة ينعي مفكرا كبيرا
وقد كرس الدكتور حسن نافعة عموده في جريدة 'المصري اليوم' لينعي أبا زيد قائلا : 'كانت صدمة كبيرة حين طالعت في الصحف الصادرة صباح أمس خبر وفاة الدكتور نصر حامد أبي زيد، وحزنت كثيراً لأنني لم أتمكن من رؤية ووداع أستاذ زميل ومفكر مرموق قبل رحيله أو حتى المشاركة في تشييع جثمانه. ويبدو أننا نعيش لحظة وداع العلماء والمفكرين الكبار في كل العالم العربي. فمنذ أسابيع نعيت في هذا المكان المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، وبالأمس نعيت رجل الدين العلامة والمفكر اللبناني الشيخ محمد حسين فضل الله، واليوم يجيء الدور على أستاذ جامعي ومفكر مصري مرموق.
تعرفت على الدكتور ( نصر) في بداية الثمانينيات حين كان يتردد على نادي أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة، ويحرص، مع زملاء آخرين من المهتمين بقضايا الثقافة والفكر، على حضور لقاء أسبوعي يشرف عليه أستاذنا المغفور له الدكتور عبدالعزيز الأهواني، عرف باسم ( لقاء الأربعاء).
ثم تعمقت علاقتنا خلال فترة عضويتي لمجلس إدارة النادي وإشرافي على نشاط لجنته الثقافية ( 84 - 87) والذي كان يتابعه بانتظام، وظلت علاقتي به وثيقة إلى أن تفجرت أزمة ترقيته إلى درجة الأستاذية، وأدليت بوجهة نظري فيها في حينه منتقدا طريقة إدارة الجامعة لها.
ثم بدأت طرقنا تفترق تدريجياً بعد ذلك، خاصة بعد اضطراره وزوجته، الدكتورة ابتهال يونس، للإقامة في هولندا عقب صدور حكم من المحكمة بتفريقهما في قضية حسبة، وهو فصل مأساوي ليس فقط فى حياة الدكتور نصر الشخصية ولكن أيضا في حياة وطن.
كانت حياة الدكتور نصر حامد أبي زيد رحلة كفاح شخصي ومسيرة نضال فكري خرج منهما معا مرفوع القيمة والقامة. فعلى المستوى الشخصى، تعد رحلة حياته نموذجاً فذاً لرجل عصامي لم تستطع تحديات النشأة في أسرة فقيرة أن تانا كاتب المقال معاقر من عزيمته الفولاذية لطلب العلم والحصول على أعلى درجاته وإثبات تفوقه وجدارته، رغم اضطراره في مقتبل حياته للعمل موظفا بسيطا للإنفاق على نفسه وأسرته.
والأهم أن هذه النشأة المتواضعة لم تصبه بأي عقدة، حيث ظل طوال حياته إنساناً دافئاً لطيف المعشر ومعتزاً بنفسه دون غرور وشديد الحرص على كرامته. أما على المستوى العلمي فكان الدكتور نصر نموذجاً للمفكر الحقيقي المتعطش للمعرفة والباحث عن الحقيقة، مهما كلفته من مشقة، الرافض للسير على الدروب السهلة والممهدة.
لذا كان من الطبيعي أن يصبح مثيراً للجدل، شأنه في ذلك شأن المفكرين الكبار. وكما كانت مسيرة حياته الشخصية مرآة عاانا كاتب المقال معاقة لمجتمع طبقي لا يعرف كيف يكتشف المواهب ويرعاها، كانت مسيرة حياته الفكرية مرآة عاانا كاتب المقال معاقة لمجتمع يعيش واقع أزمة ثقافية وفكرية عميقة في زمن الاستبداد وشركات توظيف الدين والأموال!.
فحين ترفض لجنة 'علمية' في أهم الجامعات المصرية ترقية باحث مجتهد كالدكتور نصر، بدعوى أنه 'كافر'، لا يصبح لذلك سوى معنى واحد وهو أن الجامعة لم تعد مكاناً للعلم وإنما لتصفية حسابات شخصية أو أيديولوجية. الغريب أن الأستاذ عضو لجنة الترقيات الذي كفره والذي كان يعمل، بالإضافة إلى عمله كأستاذ في الجامعة، خطيباً في مسجد ومستشاراً لإحدى شركات توظيف الأموال، تعرض هو نفسه للتكفير فيما بعد من جانب من هم أكثر منه تطرفاً!.
فهل أدركنا أننا لن نستطيع أن نتقدم، كشعوب، خطوة واحدة للأمام إلا إذا أعلينا قيمة التفكير وتخلينا تماما عن آفة التكفير؟ رحم الله المفكر الكبير الدكتور نصر رحمة واسعة، وكل العزاء لزوجته الفاضلة ولأصدقائه ومحبيه.'
الشوبكي يكتب عن أبي زيد ورفاقه
وفي زاويته الأسبوعية في جريدة 'المصري اليوم' كتب الدكتور عمر الشوبكي المحلل والكاتب السياسي في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عن الرحلة الصعبة للمفكر الراحل ورفاقه الذين تعرفوا إليه خارج مصر ومنهم نجل الرئيس السوري الراحل نور الدين الأتاسي الذي أصر على الحضور الى مصر للتعزية، وكذلك حفيد المناضل المستنير عبد الرحمن الكواكبي. أما فيما يتعلق بأفكار نصر أبي زيد فيقول الشوبكي أنه لم يكن متفقا مع بعض النتائج التي توصل إليها إلا أن ذلك لم يكن ليسمح لأحد بمصادرة حقه في الاجتهاد. ويقول:
'ورغم أني لا أدعي أني قرأت كل أعمال الراحل القديمة، إنما معظم ما كتبه منذ أن أجبر على الرحيل إلى جامعة هولندا عام 1995، واختلفت مع بعض ما وصل إليه من استنتاجات، ولكن لم أتخيل أن قضية الاتفاق والاختلاف أو حتى ما يسميه البعض ( الانحراف) الفكري والديني هو أمر يستدعي التكفير والتفريق بين الزوج والزوجة، وهي جريمة حقيقية لن تغفر لنا جميعا.
والحقيقة أن كارثة ما جرى لنصر حامد أبي زيد لا تكمن في رفض الجامعة لآرائه، إنما في أن من يتعامل معها من المفترض أنهم أساتذة جامعة تعاملوا معها على أنها آراء كافرة، وتحولوا من علماء إلى شيء أسوأ من كهنوت القرون الوسطى، وهو أمر لم يكن يتصور أشد الظلاميين إمكانية حدوثه في جامعة القاهرة.
وجاء الحكم الأصعب وهو التفريق بين الرجل وزوجته، فإذا افترضنا أن نصر حامد أبا زيد غير مؤمن، ( وهو اتهام غير صحيح ولا يحتاج فيه الرجل لشهادة من أحد لأنه صار بين أيادي الله)، واختارت زوجته بمحض إرادتها أن تعيش معه، فهل هناك أي سلطة في الكون من حقها أن تتنطع بهذا الشكل المهين على حياة الرجل وتفرض على شريكة حياته أن تتركه؟.
المذهل أن كل من انبروا بكل هذا الحماس لمحاربة الرجل واستدعاء ( كوكتيل) نادر من الإرث التكفيري والظلامي أزعجهم فقط اجتهاده العلمي، في حين لم يفرق معهم تخلف مصر الاقتصادي وفسادها وسوء أوضاعها السياسية وفقر شعبها وتراجع جامعاتها وأداء مؤسساتها، واعتبروا كل هذا ليس ضد الإسلام، إنما فقط بعض الأبحاث التي سلاحها القلم والورقة هي التي ستهدد هذا الدين العظيم الذي عاش لقرون وآمن به مئات الملايين من البشر، وبنى واحدة من أهم الحضارات الكبرى في تاريخ الإنسانية قبل أن يجثم من كفروا ابا زيد على عقول المسلمين.
إن تواطؤ الدولة مع ما حدث، ومسؤوليتها عن شيوع هذه الثقافة الظلامية داخل المجتمع، وسيادة نمط من التدين المغشوش ينبري فيه الناس للدفاع عن كل ما هو شكلي وترك كل ما هو جوهري، أدى في النهاية إلى استقالة العقل المصري أو إقالته، وسطوة ( كباتننا الرياضيين) وخبرائنا الممثلين، ونجومنا من الدعاة الجدد والقدامى على عقول الناس، وأصبحنا على ما نحن فيه لا نسرّ عدوّاً ولا حبيباً.
ستظل رحلة غربة أبي زيد دليل إدانة لنا جميعا، وتؤكد عمق مأساتنا وغيبوبتنا، وما لم نستعد دولة العقل والقانون، فإننا سنفقد ليس فقط ما تبقى مما بيّنـّاه في قرنين، إنما أيضا أي قدرة على صناعة أي مستقبل'.
أبو زيد وموقفه من الحاكمية
ما من شك في أن الموقف الفكري الجذري لنصر حامد أبي زيد كان يعتبر إعادة اعتبار لفكرة التنوير التي صاحبت مشروعا عربيا واعدا بالنهضة، وما انحيازه إلى الفكر الاعتزالي سوى محاولة للتنبيه الى أهمية الأخذ بالقراءة العقلية للنص القرآني، لذلك فقد كرس الرجل كتابا مفردا لهذه القضية حول المجاز القرآني لدى المعتزلة، وقد ظلت القضية نفسها محورا أساسيا في جل أعمال أبي زيد. ففي كتابه المؤسس 'نقد الخطاب الديني' يرى أبو زيد أن رد الظواهر كلها 'طبيعية واجتماعية' إلى علة أولى أو مبدأ أول، من شأنه أن يقود بالضرورة إلى 'الحاكمية' الإلهية بوصفها مقابلا ونقيضا لحاكمية البشر. ويرى الرجل أن الخطاب الديني لا يكتفي بتوظيف هذه الآلية لتكريس هذا المبدأ فحسب، بل يوظفها أيضاً في هجومه على كثير من اجتهادات العقل الإنساني في محاولاته لتفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها ويتم ذلك باختزال كل اجتهاد من هذه الاجتهادات ورده إلى فكرة واحدة تبدو ساذجة متهالكة هي مناهضة الدين.
ليس هذا فحسب بل كثيرا ما تناول الكاتب عناصر أخرى أخذت قداسة النص نفسه مثل أقوال السلف، بل يتجاوز الخطاب الديني هذا الموقف إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته، وبعبارة أخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية 'التوحيد بين الفكر والدين' في توظيف هذه الآلية، أما بالنسبة لـ 'آلية تفسير الظواهر بردها إلى مبدأ واحد فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر، ومن الواضح ـ حسب المؤلف - أن الخطاب الديني يعتمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض توظيف هذه الآلية ويردها على أصحابها وهذا في حقيقته يمثل موقفاً نفعياً إيديولوجيا من التراث، موقفاً يستبعد منه العقلي والمستنير ليكرس الرجعي المتخلف ولعل هذا ما يدفع البعض لاستخدام نفس الآلية مستنداً إلى العقل المستنير في التراث متوهماً بذلك أنه يمكن أن يحارب التخلف بنفس صلاحياته، ومتصوراً أنه يستطيع بنفس السلاح هزيمته والحقيقة أن هذا الموقف النفعي من التراث في الخطاب الديني يساعده في توظيف آلية إهدار البعد التاريخي. ويعود أبو زيد بمفهوم الحاكمية الى الدولة الأموية التي بدأت برفع المصاحف على أسنة السيوف وطلبت الاحتكام الى كتاب الله عندما استجاب معاوية لنصيحة عمرو بن العاص في معركة صفين، يقول أبوزيد: ولا خلاف على أنها كانت 'حيلة' أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات الخصوم وان توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين. إن حيلة التحكيم تكشف عن محتواها الأيديولوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص، وقد أدرك الإمام على ذلك وكان قوله لرجاله: 'عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص ( وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر الرجال، ويحكم إنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة. ويضيف أبوزيد أن هذا الموقف ترتب عليه نشوء ظاهرة أهدرت قيمة عقائدية، وأسست لظاهرة الحاكمية ويؤكد أن افتقار الدولة الأموية الى المشروعية هو الذي دفعها الى ذلك، ويؤكد الرجل هنا أن هذه اللعبة تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي وهي عملية ظل النظام الأموي يمارسها بحكم افتقاره إلى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي وقد ظل الاتجاه إلى الأسلوب الأموي مسلكاً سائداً في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية. ويضيف أبوزيد: احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ 'الحاكمية' الذي غرسه فكانت مقولة 'الجبر' التي تسند كل ما يحدث في العالم ـ بما في ذلك أفعال الإنسان - إلى قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة.
ولم يكن نصر أبوزيد ببعيد عن القراءة الواقعية لأسباب الأزمة الفكرية والمجتمعية التي أدت الى غلق باب الاجتهاد، ويقول هنا:
إن اختزال دور الإسلام ومقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من البشر لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر هو التزييف بعينه، لأنه مقصد شكلي ما دام يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص، هذا فضلا عن انه تزييف يجمد النصوص كما يجمد الواقع، فيتعلم أبناؤنا في المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجواري ومعاشرتهن معاشرة جنسية، وإذا كانت حاكمية النصوص لا تسمح بالخلاف إلا في الفروع وفي حدود الترجيح بين آراء القدماء للاختيار منها، حسب ابي زيد، فمن الطبيعي أن يكون الاجتهاد محكوما بأطر لا تمت إلى الحياة والواقع بصلة، وهكذا لا يجد الخطاب الديني أمام أي اجتهاد حقيقي من سبيل إلا أن يحتمي بمبدأ 'لا اجتهاد فيما فيه نص'، وفي قضية أن تحجب البنت سائر الورثة شأنها شأن الذكر، كان يكفي آن يكون المعيار هو المقاصد الكلية للوحي، بدلا من الاستناد إلى اجتهاد الفقه الشيعي أو التمسك بحرفية النصوص. لذلك ليس غريباً أن تتسع الفجوة، حسب أبي زيد، بين الواقع المتحرك المتطور وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها. وينتهي أبو زيد الى القول بأن الخطاب الديني بكل مستوياته من معتدل ( حكومي ومعارض) ومتطرف وتعليمي تربوي وإعلامي، يشترك في آلياته وفي منطلقاته الفكرية على السواء.
وإذا كان خطاب الجماعات يبدو هو الأعلى صوتا، فإنه في الحقيقة مجرد صدى لمعطيات سابقة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام، صدى كان يتردد خافتا طوال الوقت، ثم ساعد على تجسيمه واقع مترد يعجز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمواطن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز الحكم والسلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة بكل معانيها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثمة شبه بين شباب الجماعات والخوارج، فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت / الاستشهاد. ويختتم أبو زيد رأيه قائلا:
لقد كانوا فيما يرويه المؤرخون يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في استعذاب الموت وتفضيله على الحياة قصائد كثيرة مشهورة. إن الواقع من منظور شباب عصي على الإصلاح، والعقل الإنساني عاجز عن إبداع واقع طيب مؤنس، ولا حل من ثم إلا إحياء المثال الجاهز القديم، المجتمع الإسلامي كما عاشه الصحابة تحت قيادة النبي، انه الاحتكام إلى كتاب الله وحده السبيل إلى تحقيق هذا الحلم، وهلم جرا.
الخميس 06 أبريل 2023, 01:31 من طرف المهندس رائد الجندي
» افضل ساعتين في يوم رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:30 من طرف المهندس رائد الجندي
» ليلة القدر
الخميس 06 أبريل 2023, 01:30 من طرف المهندس رائد الجندي
» أسأل الله لكم فى شهر رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:29 من طرف المهندس رائد الجندي
» كل عام وانتم بخير
الخميس 06 أبريل 2023, 01:28 من طرف المهندس رائد الجندي
» موقع رائع في رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:28 من طرف المهندس رائد الجندي
» حين كبرت وعرفت حقيقة الهند تمنيت أن أكون هندياً
السبت 25 فبراير 2023, 23:14 من طرف المهندس رائد الجندي
» آل الجندي في مصر
الثلاثاء 27 أبريل 2021, 14:55 من طرف المهندس رائد الجندي
» سلامي لجميع أفراد عائلة الجندي
السبت 10 أبريل 2021, 18:01 من طرف المهندس رائد الجندي
» أنتشار آل الجندي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:21 من طرف husam
» تصريح موثق لنسب الجندي للعباسين
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:16 من طرف husam
» عائلة الجندي في اليمن
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:13 من طرف husam
» أصل العائلة بين الموروث الأزدي و النسب العباسي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 12:20 من طرف husam
» نبذات الوصل لذرية أمير المؤمنين الخليفة أبي جعفر منصور المستنصر بالله العباسي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 12:00 من طرف husam
» جد عائلة الجندي الفرع الذي كان يقطن المنسي وذريته
الأربعاء 15 يونيو 2016, 21:43 من طرف المهندس رائد الجندي
» كل عام وأنتم بخير - شهر رمضان
الأربعاء 15 يونيو 2016, 21:42 من طرف المهندس رائد الجندي
» نعي سيده فاضله
الجمعة 14 نوفمبر 2014, 19:28 من طرف Admin مدير الموقع
» السلام عليكم
الثلاثاء 30 سبتمبر 2014, 18:14 من طرف Admin مدير الموقع
» كل عام وجميع أفراد آل الجندي في كل مكان بالف خير
السبت 27 سبتمبر 2014, 14:33 من طرف أنور الجندي
» كل عام وانتم بخير بمناسبة حلول عيد الاضحى المبارك
الجمعة 26 سبتمبر 2014, 19:07 من طرف Admin مدير الموقع