ولو حاولَ مثلي، بعلمِهِ القليلِ وجهدِهِ الهزيلِ أنْ يطرقَ بابَ تفسيرِ السورةِ، لكانَ مُقتحِماً ما هوَ فوقَ مَقامِهِ وقدرتِه؛ فالتفسيرُ شأنُ العلماءِ الربانيين، أمّا شأنُنا نحن المسلمينَ العاديينَ فهوَ محاولةُ التَّدبُّرِ وإرواءِ الظمأ. والتدبرُ قراءةٌ ذاتيةٌ مشروعةٌ لكلِّ من يبلغُهُ الخطابُ القرآني، دونَ أن يدَّعي هذا المُتَدَبِرُ أنَّ قراءتَهُ هيَ مُرادُ الحقِّ الحصريُّ أو الذي لا يحتملُ الخطأَ من الكلمات. فالقرآنُ لا يُحتَكَرُ، وهوَ كتابٌ لا تنقضي عجائبُه ولا يَخْلَقُ على كثرةِ الردِّ ولكلِّ فهمٍ منهُ نصيبٌ، ولكلِّ مُتأمِّلٍ لوحةٌ يرسمُها بمُرهَفِ سَمعِهِ وخَصْبِ خَياله. والتدبرُ قد يصيبُ وقد يخطئُ، وقد يُشِكِّلُ جزءاً ضئيلاً في بنيانٍ عظيمٍ من قولِ الذي لن نُحيطَ من علمِهِ إلا بما شاء. فَهُوَ في النهايةِ اجتهادٌ، نسألُ اللهَ عليهِ الأجرَ، أصَبْنا أم أخطأْنا.
فما الذي تريدُ أن تقولَهُ (ص)، وفي أيِّ الاتجاهاتِ تسيرُ؟
السورةُ لا تتناولُ مظاهرَ الإعجازِ الكونيِّ، وليسَ فيها من الوعيدِ أو الترغيبِ إلا شيءٌ يسيرٌ يخدمُ غرضاً آخرَ تتجهُ إليهِ السورة. هيَ في مُجملِها أحداثٌ واقعيةٌ، منها ما يجري في الحاضرِ؛ حاضرِ الوقتِ الذي أُنزِلَتْ فيهِ الكلماتُ (موقف كفار مكة). ومنها ما يتحدثُ عن الماضي (الأنبياءِ والأممِ السالفةِ)، ومنها ما يتجهُ إلى المستقبلِ (أحداثِ الآخرةِ بعدَ الفراغِ من الحسابِ)، ومنها ما لَهُ عُلاقةٌ وثيقةٌ بهذا كلِّه (خلق آدم وعدم طاعة إبليس لأمر السجود).
الإنسانُ يبدو مركزياً في السورةِ، بسيرتِهِ الذاتيةِ وواقعِهِ وأحداثِ مسيرتِه. تتجاذبُهُ خلالَ ذلكَ قوتانِ: القرآنُ الكريمُ منهجُه القويمُ، وقوةُ إبليسَ الذي أخذَ عهداً على نفسِهِ بغوايةِ بني آدمَ حتّى قيامِ الساعةِ. ولننظرْ كيفَ تجعلُ السورةُ من الإنسانِ محورَ اهتمامِها .....
في البدايةِ كانَ حرفُ ص، الذي أوردَ بعضُ المفسرينَ، منهم الزمخشريُّ في الكشّافِ والطبريُّ في جامعِ البيان، أنَّ من معانيهِ المحتملةِ الأمرَ بأنْ يعرضَ الإنسانُ عملَهُ على القرآنِ، ليرى أينَ عملُهُ من كتابِ اللهِ، وأينَ هُوَ من أوامرِهِ ونواهيه. غيرَ أنَّ لـ (ص) معنى لطيفاً آخرَ نجدُهُ عندَ بعضِ المتصوفةِ (البقلي أو ابن عربي) إذْ أنَّهم يعتبرونَها قَسَماً بكمالِ الذاتِ المحمديةِ، التي هيَ أكملُ كمالاتِ الإنسان.
المعنيانِ لا يفترقانِ لأنَّ القادمَ من السورةِ يجعلُكَ تحسُّ بأنَّك تسيرُ على خطٍ مستقيمٍ من طرفِهِ إلى أقصى طرفِهِ الآخر: في الطرفِ الأولِ كفارُ مكةَ وسائرِ الأممِ التي كَذَّبَت الرسلَ من قبل؛ أي الإنسانُ في أسوأ حالاتِهِ الروحانيةِ وفي أقصى درجاتِ عنادِه. أمّا الطرفُ الثاني ففيهِ طائفةٌ من الأنبياءِ والرسلِ، مع شيءٍ من الاسترسالِ في سردِ قصصِ ثلاثةٍ منهم. لكنْ وبشكلٍ مفاجئٍ، يأتي ذكرُ هؤلاءِ الرسلِ الثلاثةِ مقروناً بذنوبٍ اقترفوها، وهم على ما هم من الطهارةِ والاصطفاءِ. ( لا تنسَوْا أنَّ محمداً الإنسانَ، عليهِ الصلاةُ والسلامُ، أكملَ الكُملاءِ وسيدَ بني آدمَ قد عوتِبَ في بعضِ مواضعِ القرآنِ الكريمِ عتاباً ربانياً هادئاً).
فداودُ عليهِ السلامُ، العبدُ الأوّابُ، استحقَ أن يُذَكَّرَ بزلتِهِ، سواءً قُصِدَ بذلكَ قصتُهُ مع
أوريا، أم كانَتْ زلتُهُ عدمَ التثبتِ عندَ الحُكمِ بينَ المتخاصمَيْن. المهمُّ أنَّهُ اخطأَ فاستغفرَ ربَّهُ وخرَّ راكعاً وكَتَبَ خطيئتَهُ على كفِّهِ كي لا ينساها. وسليمانُ عليهِ السلامُ، ألهَتْهُ خيولُهُ ومالُهُ عن صلاتِهِ حتى فاتَهُ وقتُ الصلاةِ، ( ياللهولِ، نبيٌّ تفوتُهُ صلاةٌ!!) فجازى نفسَهُ بتأديبِها وحرمانِها من سببِ فتنتِها. وأيوبُ المُبتلى، قيلَ أنَّ مظلوماً استنصرَهُ فلم ينصُرْه، أو أنَّهُ دارى ملكاً ظالماً كانَتْ غنمُ أيوبَ ترعى في أرضِهِ، فكانَ ذلكَ من أسبابِ ابتلائِه.
فلماذا يَبْرُزُ الشرُّ مكتملاً والخيرُ ناقصاً؟ إنَّها النظرةُ الواقعيةُ عندَ الإقدامِ على مهمةٍ خطيرةٍ، وحسابُ كلِّ احتمالاتِها بدقةٍ، وتوطينُ صاحبِ المهمةِ على قبولِ نقصِهِ وخطئِهِ. فالسورةُ تقولُ أنَّ الإنسانَ خطّاءٌ بطبعِهِ، ضعيفٌ بلا إرشادٍ ولا تقويمٍ حتى لو بَلَغَ مرتبةَ الأنبياءِ والرسلِ. الفرقُ الوحيدُ يكمنُ في مراجعةِ الإنسانِ لنفسِهِ ومقدرتِهِ على الاستغفارِ والتصحيحِ، ولذلكَ وُصِفَ كلُّ واحدٍ من الأنبياءِ الثلاثةِ بأنَّهُ أوابٌ.
والكلامُ يبدو أوضحَ ما يكونُ في قصةِ داودَ بالذات؛ فهي القصةُ الأولى، وما وردَ فيها من تصريحٍ وتلميحٍ مُغْنٍ عن ذكرِهِ في القصصِ اللاحقةِ. واليكم بعضَ التفاصيل:
داودُ عبدٌ من عبادِ اللهِ، ذو قوةٍ في دينِهِ، مؤيدٌ من اللهِ بالطبيعةِ جمادِها وحيِّها؛ الجبالِ والطيورِ، ومؤيدٌ من الله بالبشرِ، فملكُهُ مشدودٌ بما حولَهُ من جندٍ مخلصينَ طائعين. ومؤيدٌ بعقلِهِ ومنطقِهِ؛ أي بجودةِ فكرِهِ وطلاقةِ لسانِه، فَهُوَ من القليلينَ الذينَ اجتمعَ لهم كلُّ هذا التأييد.
المهمُّ أنَّ هذا الإنسانَ المتناغمَ مع الطبيعةِ، فهيَ تُسَبِّحُ بتسبيحِهِ وتطرَبُ لمزاميرِهِ، والمؤيدَ بكلِّ ما حولَهُ من مخلوقاتٍ، قد اخطأَ وذُكِّرَ بخطئِه، ثمَّ خوطِبَ بقولِهِ تعالى " يا داودُ إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ، فاحكمْ بينَ الناسِ بالحقِّ، ولا تتبعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عن سبيلِ اللهِ، إنَّ الذينَ يضلونَ عن سبيلِ اللهِ لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسَوْا يومَ الحساب"
إنَّهُ الخطأُ مع التذكيرِ بالوظيفةِ؛ أي الخلافة. والخلافةُ عاملٌ ثابتٌ أيضاً شأنُها شأنَ المنهجِ وعدوِّ المنهجِ. فلم يَبْقَ من عامِلٍ مُتغيِّرٍ إلا الإنسانُ. وأيُّ إنسانٍ هذا الذي يُذَكَّرُ ويُرْشَدُ، إنَّهُ المثالُ؛ داودُ عليهِ السلامُ. وَمَن المُطالَبُ بالصبرِ والتأسي بداودَ، إنَّهُ محمدٌ، أكمَلُ الكُملاءِ وأرشدُهم، فما بالُكم بمن هم مثلُنا، من القاصرينَ المُقصرينَ، المُطالبينَ بتحقيقِ منهجِ الخلافةِ أيضاً؟؟
السورةُ تَضعُكَ بهذا في موقفِ المسؤوليةِ الفرديةِ المطلقةِ، تُثيرُ فيكَ بعضَ الخوفِ، لكنَّها تَهَبُكَ نفحةً قويةً من الرجاء. تقولُ لك أنتَ مجردُ إنسانٍ، ستقعُ في الخطأِ رغماً عنكَ، فاحذرْ أنْ تنزلقَ إلى مرتبةِ المكذبينَ من قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وسواهم من الأممِ التي ذكرَتْها السورة. واعلمْ كذلكَ أنَّك لن تكونَ خيراً من أنبياءِ اللهِ، فهؤلاءِ أيضاً اخطأوا، لكنَّهم سرعانَ ما استغفروا وأنابوا...
إنَّها دعوةٌ صريحةٌ إلى ضرورةِ التصحيحِ والأوبةِ، فحيثُما استَرْسَلَت السورةُ في ذكرِ الأنبياءِ ذَكَرَتْ أخطاءَهم ثمَّ وصفَتْهم بأنَّهم أوابينَ، ولا يؤوبُ إلا الذي ابتعدَ، ولا يبتعدُ إلا الذي يمتلكُ الإرادةَ وقرارَ نفسِه. فلا تجعلْ إرادتَكَ وقدرتَكَ مُدخلاً للشيطانِ عليكَ، تَنَبّّهْ إلى ذلكَ، وداومْ على تصحيحِ مسارِكَ ما دمتَ قادراً على التصحيحِ.
هل السورةُ تحضيرٌ واجبٌ لمرحلةٍ قادمةٍ من مراحلِ البشريةِ على الأرضِ؟؟ لا شكَّ أنَّها كذلكَ، فأخطاؤنا الفرديةُ جزءٌ من بشريتِنا ووجودِنا. وأخطاؤنا كأمةٍ ضَيَّعَت الخلافةَ والمنهجَ، واقعٌ متحققٌ أمامَ أعينِنا. فهلْ من أملٍ في التصحيحِ؟ وهلْ تصحيحُ الفردِ لمسارِهِ كفيلٌ بتصحيحِ مسارِ الجماعةِ؟
وهل المطلوبُ منّا أنْ نكونَ بلا أخطاءٍ كيْ نقومَ بوظيفةِ الخلافةِ خيرَ قيام؟ لا ليسَ الأمرُ كذلكَ، ولو كانَ لَكَفَت الملائكةُ وما كانَت حاجةٌ إلى وجودِ الإنسانِ.
التركيزُ على وظيفةِ الإنسانِ، والإمكاناتُ المتاحةُ أمامَهُ، والتناغمُ الذي لمسناهُ في قصةِ داوودَ بينَ الإنسانِ والوجودِ مِن حولِه، تَضَعُنا أمامَ معنى كبيرٍ، يبرزُ فيهِ دورُ الحقِّ والعدالةِ، فالجميعُ يصغُرُ أمامَهما مهما تقدمَتْ منزلتُه، من جاهٍ أو مُلكٍ أو علمٍ (ما أهمَّ هذا المعنى لمَنْ يبحثُ عن تصحيحِ مسارِه). ويبرزُ فيهِ ضعفُ الإنسانِ وقوتُهُ في آنٍ معاً، وواقعيةُ النظرِ إلى كُنْهِ الإنسانِ وحقيقتِه. ثمَّ يبرزُ شيءٌ لا يقلُّ أهميةً، أنَّ الحياةَ دوراتٌ متتاليةٌ، ما إن تنتهي دورةٌ حتى تبدأَ دورةٌ أخرى من جديدٍ: دورةُ التناسلِ، داودُ وابنُهُ سليمانُ، دورةُ الأحوالِ، أيوبُ من نعيمٍ إلى ابتلاءٍ إلى نعيمٍ، دورةُ الصراعِ، الإنسانُ مع إبليسَ؛ فإبليسُ دائماً موجودٌ والعبادُ المُخْلَصونَ موجودونَ كذلِك، دورةُ السورةِ نفسِها، إذْ تبدأُ بالتنويهِ بالقرآنِ وتنتهي بالتنويهِ به كذلكَ، فهوَ الحاضرُ الذي لا يغيبُ. ودائماً وأبداً ص، فاعرضْ نفسَكَ على منهجِ الخلافةِ، تُحقِقْ غاياتِها، وتكسبْ النعيمَ المقيمَ.
|
فما الذي تريدُ أن تقولَهُ (ص)، وفي أيِّ الاتجاهاتِ تسيرُ؟
السورةُ لا تتناولُ مظاهرَ الإعجازِ الكونيِّ، وليسَ فيها من الوعيدِ أو الترغيبِ إلا شيءٌ يسيرٌ يخدمُ غرضاً آخرَ تتجهُ إليهِ السورة. هيَ في مُجملِها أحداثٌ واقعيةٌ، منها ما يجري في الحاضرِ؛ حاضرِ الوقتِ الذي أُنزِلَتْ فيهِ الكلماتُ (موقف كفار مكة). ومنها ما يتحدثُ عن الماضي (الأنبياءِ والأممِ السالفةِ)، ومنها ما يتجهُ إلى المستقبلِ (أحداثِ الآخرةِ بعدَ الفراغِ من الحسابِ)، ومنها ما لَهُ عُلاقةٌ وثيقةٌ بهذا كلِّه (خلق آدم وعدم طاعة إبليس لأمر السجود).
الإنسانُ يبدو مركزياً في السورةِ، بسيرتِهِ الذاتيةِ وواقعِهِ وأحداثِ مسيرتِه. تتجاذبُهُ خلالَ ذلكَ قوتانِ: القرآنُ الكريمُ منهجُه القويمُ، وقوةُ إبليسَ الذي أخذَ عهداً على نفسِهِ بغوايةِ بني آدمَ حتّى قيامِ الساعةِ. ولننظرْ كيفَ تجعلُ السورةُ من الإنسانِ محورَ اهتمامِها .....
في البدايةِ كانَ حرفُ ص، الذي أوردَ بعضُ المفسرينَ، منهم الزمخشريُّ في الكشّافِ والطبريُّ في جامعِ البيان، أنَّ من معانيهِ المحتملةِ الأمرَ بأنْ يعرضَ الإنسانُ عملَهُ على القرآنِ، ليرى أينَ عملُهُ من كتابِ اللهِ، وأينَ هُوَ من أوامرِهِ ونواهيه. غيرَ أنَّ لـ (ص) معنى لطيفاً آخرَ نجدُهُ عندَ بعضِ المتصوفةِ (البقلي أو ابن عربي) إذْ أنَّهم يعتبرونَها قَسَماً بكمالِ الذاتِ المحمديةِ، التي هيَ أكملُ كمالاتِ الإنسان.
المعنيانِ لا يفترقانِ لأنَّ القادمَ من السورةِ يجعلُكَ تحسُّ بأنَّك تسيرُ على خطٍ مستقيمٍ من طرفِهِ إلى أقصى طرفِهِ الآخر: في الطرفِ الأولِ كفارُ مكةَ وسائرِ الأممِ التي كَذَّبَت الرسلَ من قبل؛ أي الإنسانُ في أسوأ حالاتِهِ الروحانيةِ وفي أقصى درجاتِ عنادِه. أمّا الطرفُ الثاني ففيهِ طائفةٌ من الأنبياءِ والرسلِ، مع شيءٍ من الاسترسالِ في سردِ قصصِ ثلاثةٍ منهم. لكنْ وبشكلٍ مفاجئٍ، يأتي ذكرُ هؤلاءِ الرسلِ الثلاثةِ مقروناً بذنوبٍ اقترفوها، وهم على ما هم من الطهارةِ والاصطفاءِ. ( لا تنسَوْا أنَّ محمداً الإنسانَ، عليهِ الصلاةُ والسلامُ، أكملَ الكُملاءِ وسيدَ بني آدمَ قد عوتِبَ في بعضِ مواضعِ القرآنِ الكريمِ عتاباً ربانياً هادئاً).
فداودُ عليهِ السلامُ، العبدُ الأوّابُ، استحقَ أن يُذَكَّرَ بزلتِهِ، سواءً قُصِدَ بذلكَ قصتُهُ مع
أوريا، أم كانَتْ زلتُهُ عدمَ التثبتِ عندَ الحُكمِ بينَ المتخاصمَيْن. المهمُّ أنَّهُ اخطأَ فاستغفرَ ربَّهُ وخرَّ راكعاً وكَتَبَ خطيئتَهُ على كفِّهِ كي لا ينساها. وسليمانُ عليهِ السلامُ، ألهَتْهُ خيولُهُ ومالُهُ عن صلاتِهِ حتى فاتَهُ وقتُ الصلاةِ، ( ياللهولِ، نبيٌّ تفوتُهُ صلاةٌ!!) فجازى نفسَهُ بتأديبِها وحرمانِها من سببِ فتنتِها. وأيوبُ المُبتلى، قيلَ أنَّ مظلوماً استنصرَهُ فلم ينصُرْه، أو أنَّهُ دارى ملكاً ظالماً كانَتْ غنمُ أيوبَ ترعى في أرضِهِ، فكانَ ذلكَ من أسبابِ ابتلائِه.
فلماذا يَبْرُزُ الشرُّ مكتملاً والخيرُ ناقصاً؟ إنَّها النظرةُ الواقعيةُ عندَ الإقدامِ على مهمةٍ خطيرةٍ، وحسابُ كلِّ احتمالاتِها بدقةٍ، وتوطينُ صاحبِ المهمةِ على قبولِ نقصِهِ وخطئِهِ. فالسورةُ تقولُ أنَّ الإنسانَ خطّاءٌ بطبعِهِ، ضعيفٌ بلا إرشادٍ ولا تقويمٍ حتى لو بَلَغَ مرتبةَ الأنبياءِ والرسلِ. الفرقُ الوحيدُ يكمنُ في مراجعةِ الإنسانِ لنفسِهِ ومقدرتِهِ على الاستغفارِ والتصحيحِ، ولذلكَ وُصِفَ كلُّ واحدٍ من الأنبياءِ الثلاثةِ بأنَّهُ أوابٌ.
والكلامُ يبدو أوضحَ ما يكونُ في قصةِ داودَ بالذات؛ فهي القصةُ الأولى، وما وردَ فيها من تصريحٍ وتلميحٍ مُغْنٍ عن ذكرِهِ في القصصِ اللاحقةِ. واليكم بعضَ التفاصيل:
داودُ عبدٌ من عبادِ اللهِ، ذو قوةٍ في دينِهِ، مؤيدٌ من اللهِ بالطبيعةِ جمادِها وحيِّها؛ الجبالِ والطيورِ، ومؤيدٌ من الله بالبشرِ، فملكُهُ مشدودٌ بما حولَهُ من جندٍ مخلصينَ طائعين. ومؤيدٌ بعقلِهِ ومنطقِهِ؛ أي بجودةِ فكرِهِ وطلاقةِ لسانِه، فَهُوَ من القليلينَ الذينَ اجتمعَ لهم كلُّ هذا التأييد.
المهمُّ أنَّ هذا الإنسانَ المتناغمَ مع الطبيعةِ، فهيَ تُسَبِّحُ بتسبيحِهِ وتطرَبُ لمزاميرِهِ، والمؤيدَ بكلِّ ما حولَهُ من مخلوقاتٍ، قد اخطأَ وذُكِّرَ بخطئِه، ثمَّ خوطِبَ بقولِهِ تعالى " يا داودُ إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ، فاحكمْ بينَ الناسِ بالحقِّ، ولا تتبعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عن سبيلِ اللهِ، إنَّ الذينَ يضلونَ عن سبيلِ اللهِ لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسَوْا يومَ الحساب"
إنَّهُ الخطأُ مع التذكيرِ بالوظيفةِ؛ أي الخلافة. والخلافةُ عاملٌ ثابتٌ أيضاً شأنُها شأنَ المنهجِ وعدوِّ المنهجِ. فلم يَبْقَ من عامِلٍ مُتغيِّرٍ إلا الإنسانُ. وأيُّ إنسانٍ هذا الذي يُذَكَّرُ ويُرْشَدُ، إنَّهُ المثالُ؛ داودُ عليهِ السلامُ. وَمَن المُطالَبُ بالصبرِ والتأسي بداودَ، إنَّهُ محمدٌ، أكمَلُ الكُملاءِ وأرشدُهم، فما بالُكم بمن هم مثلُنا، من القاصرينَ المُقصرينَ، المُطالبينَ بتحقيقِ منهجِ الخلافةِ أيضاً؟؟
السورةُ تَضعُكَ بهذا في موقفِ المسؤوليةِ الفرديةِ المطلقةِ، تُثيرُ فيكَ بعضَ الخوفِ، لكنَّها تَهَبُكَ نفحةً قويةً من الرجاء. تقولُ لك أنتَ مجردُ إنسانٍ، ستقعُ في الخطأِ رغماً عنكَ، فاحذرْ أنْ تنزلقَ إلى مرتبةِ المكذبينَ من قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وسواهم من الأممِ التي ذكرَتْها السورة. واعلمْ كذلكَ أنَّك لن تكونَ خيراً من أنبياءِ اللهِ، فهؤلاءِ أيضاً اخطأوا، لكنَّهم سرعانَ ما استغفروا وأنابوا...
إنَّها دعوةٌ صريحةٌ إلى ضرورةِ التصحيحِ والأوبةِ، فحيثُما استَرْسَلَت السورةُ في ذكرِ الأنبياءِ ذَكَرَتْ أخطاءَهم ثمَّ وصفَتْهم بأنَّهم أوابينَ، ولا يؤوبُ إلا الذي ابتعدَ، ولا يبتعدُ إلا الذي يمتلكُ الإرادةَ وقرارَ نفسِه. فلا تجعلْ إرادتَكَ وقدرتَكَ مُدخلاً للشيطانِ عليكَ، تَنَبّّهْ إلى ذلكَ، وداومْ على تصحيحِ مسارِكَ ما دمتَ قادراً على التصحيحِ.
هل السورةُ تحضيرٌ واجبٌ لمرحلةٍ قادمةٍ من مراحلِ البشريةِ على الأرضِ؟؟ لا شكَّ أنَّها كذلكَ، فأخطاؤنا الفرديةُ جزءٌ من بشريتِنا ووجودِنا. وأخطاؤنا كأمةٍ ضَيَّعَت الخلافةَ والمنهجَ، واقعٌ متحققٌ أمامَ أعينِنا. فهلْ من أملٍ في التصحيحِ؟ وهلْ تصحيحُ الفردِ لمسارِهِ كفيلٌ بتصحيحِ مسارِ الجماعةِ؟
وهل المطلوبُ منّا أنْ نكونَ بلا أخطاءٍ كيْ نقومَ بوظيفةِ الخلافةِ خيرَ قيام؟ لا ليسَ الأمرُ كذلكَ، ولو كانَ لَكَفَت الملائكةُ وما كانَت حاجةٌ إلى وجودِ الإنسانِ.
التركيزُ على وظيفةِ الإنسانِ، والإمكاناتُ المتاحةُ أمامَهُ، والتناغمُ الذي لمسناهُ في قصةِ داوودَ بينَ الإنسانِ والوجودِ مِن حولِه، تَضَعُنا أمامَ معنى كبيرٍ، يبرزُ فيهِ دورُ الحقِّ والعدالةِ، فالجميعُ يصغُرُ أمامَهما مهما تقدمَتْ منزلتُه، من جاهٍ أو مُلكٍ أو علمٍ (ما أهمَّ هذا المعنى لمَنْ يبحثُ عن تصحيحِ مسارِه). ويبرزُ فيهِ ضعفُ الإنسانِ وقوتُهُ في آنٍ معاً، وواقعيةُ النظرِ إلى كُنْهِ الإنسانِ وحقيقتِه. ثمَّ يبرزُ شيءٌ لا يقلُّ أهميةً، أنَّ الحياةَ دوراتٌ متتاليةٌ، ما إن تنتهي دورةٌ حتى تبدأَ دورةٌ أخرى من جديدٍ: دورةُ التناسلِ، داودُ وابنُهُ سليمانُ، دورةُ الأحوالِ، أيوبُ من نعيمٍ إلى ابتلاءٍ إلى نعيمٍ، دورةُ الصراعِ، الإنسانُ مع إبليسَ؛ فإبليسُ دائماً موجودٌ والعبادُ المُخْلَصونَ موجودونَ كذلِك، دورةُ السورةِ نفسِها، إذْ تبدأُ بالتنويهِ بالقرآنِ وتنتهي بالتنويهِ به كذلكَ، فهوَ الحاضرُ الذي لا يغيبُ. ودائماً وأبداً ص، فاعرضْ نفسَكَ على منهجِ الخلافةِ، تُحقِقْ غاياتِها، وتكسبْ النعيمَ المقيمَ.
|
الخميس 06 أبريل 2023, 01:31 من طرف المهندس رائد الجندي
» افضل ساعتين في يوم رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:30 من طرف المهندس رائد الجندي
» ليلة القدر
الخميس 06 أبريل 2023, 01:30 من طرف المهندس رائد الجندي
» أسأل الله لكم فى شهر رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:29 من طرف المهندس رائد الجندي
» كل عام وانتم بخير
الخميس 06 أبريل 2023, 01:28 من طرف المهندس رائد الجندي
» موقع رائع في رمضان
الخميس 06 أبريل 2023, 01:28 من طرف المهندس رائد الجندي
» حين كبرت وعرفت حقيقة الهند تمنيت أن أكون هندياً
السبت 25 فبراير 2023, 23:14 من طرف المهندس رائد الجندي
» آل الجندي في مصر
الثلاثاء 27 أبريل 2021, 14:55 من طرف المهندس رائد الجندي
» سلامي لجميع أفراد عائلة الجندي
السبت 10 أبريل 2021, 18:01 من طرف المهندس رائد الجندي
» أنتشار آل الجندي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:21 من طرف husam
» تصريح موثق لنسب الجندي للعباسين
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:16 من طرف husam
» عائلة الجندي في اليمن
الأربعاء 20 يونيو 2018, 13:13 من طرف husam
» أصل العائلة بين الموروث الأزدي و النسب العباسي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 12:20 من طرف husam
» نبذات الوصل لذرية أمير المؤمنين الخليفة أبي جعفر منصور المستنصر بالله العباسي
الأربعاء 20 يونيو 2018, 12:00 من طرف husam
» جد عائلة الجندي الفرع الذي كان يقطن المنسي وذريته
الأربعاء 15 يونيو 2016, 21:43 من طرف المهندس رائد الجندي
» كل عام وأنتم بخير - شهر رمضان
الأربعاء 15 يونيو 2016, 21:42 من طرف المهندس رائد الجندي
» نعي سيده فاضله
الجمعة 14 نوفمبر 2014, 19:28 من طرف Admin مدير الموقع
» السلام عليكم
الثلاثاء 30 سبتمبر 2014, 18:14 من طرف Admin مدير الموقع
» كل عام وجميع أفراد آل الجندي في كل مكان بالف خير
السبت 27 سبتمبر 2014, 14:33 من طرف أنور الجندي
» كل عام وانتم بخير بمناسبة حلول عيد الاضحى المبارك
الجمعة 26 سبتمبر 2014, 19:07 من طرف Admin مدير الموقع